فصل: فصل: في خروج الناس لتلقيه صلى الله عليه وسلم عند مقدمه المدينة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فصل في رجوعه صلى الله عليه وسلم من تَبُوك وما هَمَّ المنافقون به من الكَيْدِ به وعِصمة الله إياه:

ذكر أبو الأسود في مغازيه عن عُرْوَة قال: ورجع رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قافلًا مِن تَبُوك إلى المدينة، حتى إذا كان ببعض الطريق، مكر برسولِ الله صلى الله عليه وسلم ناسٌ من المنافقين، فتآمرُوا أن يطرحُوه من رأسِ عَقَبَةٍ في الطريق، فلما بلغوا العقبة، أرادوا أن يسلكُوها معه، فلما غشيَهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، أُخبر خبرهم، فقال: «مَنْ شَاءَ مِنْكُم أَنْ يَأْخُذَ بِبَطْنِ الوَادِى، فإنَّه أَوْسَعُ لَكُمْ» وأَخذ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم العَقَبة، وأخذ الناسُ ببطن الوادى إلا النَّفَرَ الذين هَمُّوا بالمكر برسول الله صلى الله عليه وسلم، لما سمعوا بذلك، استعدُّوا وتلثَّموا، وقد همُّوا بأمر عظيم، وأمر رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم حُذيفةَ بنَ اليمان، وعمَّارَ بن ياسر، فمشيا معه، وأمر عمَّارًا أن يأخذ بزِمام الناقة، وأمر حُذيفة أن يسوقها، فبينا هُم يسيرون، إذ سمعوا وكزة القومِ مِن ورائهم قد غَشَوْه، فَغَضِبَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وأمر حُذيفة أن يردهم، وأبصرَ حذيفة غضبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجع ومعه مِحجن، واستقبل وجوهَ رواحلهم، فضربها ضربًا بالمحجن، وأبصرَ القومَ، وهم متلثِّمون، ولا يشعرُ إلا أن ذلك فعل المسافر، فأرعبهم اللهُ سبحانه حين أبصروا حُذيفة، وظنوا أنَّ مكرهم قد ظهر عليه، فأسرعُوا حتى خالَطُوا الناسَ، وأقبل حُذيفة حتى أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أدركه، قال: «اضْرِب الرَّاحِلَة يا حُذَيْفَة، وامْشِ أنْتَ ياعَمَّارُ»، فأسرعوا حتى استووا بِأَعْلاها، فخرجوا من العَقَبَةِ ينتظرون الناسَ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لحذيفَة: «هَلْ عَرَفْتَ مِنْ هؤُلاءِ الرَّهْطِ أو الرَّكْبِ أحَدًا»؟ قال حُذيفة: عرفتُ راحِلة فلان وفلان، وقال: كانت ظلمة الليل، وغشيتُهم، وهم متلثِّمون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل عَلِمْتُم ما كانَ شأن الرَّكْبِ وما أرادوا»؟ قالوا: لا واللهِ يا رسول الله، قال: «فإنهم مَكَرُوا لِيَسِيرُوا مَعِى، حَتَّى إذا اطَّلعتُ في العَقَبَةِ طَرحُونى منها» قالوا: أَوَ لا تأمُرُ بهم يا رسول الله إذًا، فنضرِبَ أعناقهم، قال: «أكره أن يتحدَّث الناسُ ويقولوا: إنَّ محمدًا قد وضع يده في أصحابه»، فسماهم لهما، وقال: «اكتماهم».
وقال ابن إسحاق في هذه القصة: «إنَّ الله قد أخبرنى بأسمائهم، وأسماء آبائهم، وسأُخبِرُك بهم إن شاء الله غدًا عند وجه الصبح، فانطلِقْ حتى إذا اصبَحْت، فاجمعهم»، فلما أصبح قال: «ادع عبد الله بن أُبَىّ، وسعد بن أبى سرح، وأبا خاطر الأعرابى، وعامرًا، وأبا عامر، والجُلاس بن سويد بن الصامت»، وهو الذي قال: لا ننتهى حتى نرمى محمدًا مِن العَقَبَةِ الليلة، وإن كان محمد وأصحابُه خيرًا منا، إنا إذًا لغنم وهو الراعى، ولا عقل لنا وهو العاقِل، وأمره أن يدعُوَ مجمع بن حارثة، ومليحًا التيمى، وهو الذي سرق طِيبَ الكعبة، وارتدَّ عن الإسلام، وانطلق هارِبًا في الأرض، فلا يُدْرى أين ذهب، وأمره أن يدعوَ حِصن بن نمير الذي أغار على تمر الصدقة فسرقه، وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وَيْحَكَ، ما حَمَلَكَ عَلَى هذَا»؟ فقال: حملنى عليه أنى ظننتُ أنَّ الله لا يُطلعك عليه، فأما إذا أطلعك الله عليه، وعلمتَه، فأنا أشهد اليوم أنك رسُولُ الله، وإنى لم أُؤمن بك قطُّ قبل هذه الساعة، فأقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عثرَته، وعفا عنه، وأمره أن يدعو طُعيمة بن أبيرق، وعبدَ الله ابن عُيينة، وهو الذي قال لأصحابه: اسهرُوا هذه الليلة تسلمُوا الدهرَ كُلَّه، فواللهِ ما لكم أمر دون أن تقتلُوا هذا الرجل، فدعاه فقال: «وَيْحَكَ، مَا كَانَ يَنْفَعُكَ مِنْ قَتْلى لَوْ أنِّى قُتِلْتُ»؟ فقال عبد الله: فواللهِ يا رسولَ الله لا نزالُ بخير ما أعطاك الله النصرَ على عدوِّك، إنما نحن باللهِ وبِكَ، فتركه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وقال: «ادعُ مُرَّة بن الربيع»، وهو الذي قال: نقتل الواحد الفرد، فيكون الناسُ عامةً بقتله مطمئنين، فدعاه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال: «وَيْحَكَ، مَا حَمَلَكَ عَلى أنْ تَقُولَ الذي قُلْتَ»؟ فقال: يا رسولَ الله؛ إن كنتُ قلتُ شيئًا من ذلك إنك لعالِم بهِ، وما قلتُ شيئًا من ذلك، فجمعهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهم اثنا عشر رجلًا الذين حاربُوا اللهَ ورسولَه وأرادوا قتله، فأخبرهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بقولهم، ومنطقهم، وسرهم، وعلانيتهم، وأطلعَ اللهُ سبحانه نبيه على ذلك بعلمه، ومات الاثنا عشر منافقين محاربين للهِ ولرسوله، وذلك قوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ} [التوبة: 74] وكان أبو عامر رأسهم، وله بنوا مسجد الضِّرار، وهو الذي كان يُقال له: الراهب، فسمَّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الفاسق»، وهو أبو حنظلة غسيل الملائكة، فأرسلوا إليه، فقدم عليهم، فلما قدِم عليهم، أخزاه الله وإيَّاهم، فانهارت تلك البقعة في نار جهنم.

.فصل [في إسرار النبي صلى الله عليه وسلم بأسماء المنافقين إلى حُذيفة]:

قلت: وفى سياق ما ذكره ابن إسحاق وَهْمٌ من وجوه:
أحدُها: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أسرَّ إلى حُذيفة أسماء أُولئك المنافقين، ولم يُطلع عليهم أحدًا غيره، وبذلك كان يُقال لحذيفة: إنه صاحِبُ السِّرِّ الذي لا يعلمهُ غيرُه، ولم يكن عمر، ولا غيرُه يعلمُ أسماءهم، وكان إذا مات الرجل وشكُّوا فيه، يقول عمر: انظروا، فإن صلَّى عليه حذيفة، وإلا فهو منافق منهم.
الثانى: ما ذكرناه من قوله: فيهم عبد الله بن أُبَىّ، وهو وَهْمٌ ظاهر، وقد ذكر ابن إسحاق نفسه، أنَّ عبد الله بن أُبَىِّ تخلَّف في غزوة تبوك.
الثالث: أن قوله: وسعد بن أبى سرح وَهْمٌ أيضًا، وخطأ ظاهرٌ، فإن سعد ابن أبى سرح لم يُعرف له إسلام ألبتة، وإنما ابنُه عبد الله كان قد أسلم وهاجر، ثم ارتدَّ ولَحِقَ بمكة، حتى استأمن له عثمانُ النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح، فأمَّنه وأسلم، فَحَسُنَ إسلامُه، ولم يظهر منه بعد ذلك شيء يُنكر عليه، ولم يكن مع هؤلاء الاثنى عشر ألبتة، فما أدرى ما هذا الخطأ الفاحش.
الرابع: قوله: وكان أبو عامر رأسَهم، وهذا وَهْمٌ ظاهر لا يخفى على مَنْ دونَ ابن إسحاق، بل هو نفسُه قد ذكر قِصة أبى عامر هذا في قصة الهجرة، عن عاصم بن عمر بن قتادة، أن أبا عامر لما هاجر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، خرجَ إلى مكة ببضعَة عشرَ رجلًا، فلما افتتح رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مكة، خرج إلى الطائف، فلما أسلم أهلُ الطائف، خرج إلى الشام، فمات بها طريدًا وحيدًا غريبًا، فأين كان الفاسقُ وغزوة تَبُوك ذهابًا وإيابًا.

.فصل: في أمر مسجد الضِّرار الذي نهى اللهُ رسولَه أن يقومَ فيه، فهدمه صلى الله عليه وسلم:

وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم مِنْ تَبُوك، حتى نزل بذى أوَان، وبينها وبين المدينة ساعة، وكان أصحابُ مسجد الضِّرار أتَوْه وهو يتجهَّز إلى تَبُوك، فقالوا: يا رسولَ الله؛ إنَّا قد بنينا مسجدًا لِذى العِلَّة والحاجة، واللَّيلة المطيرة الشاتية، وإنَّا نُحِبُّ أن تأتيَنا فتُصَلِّىَ لنا فيه، فقال: «إنِّى عَلى جَناح سَفَر، وحَالِ شُغْلٍ، وَلَوْ قَدِمْنا إنْ شَاءَ اللهُ لأَتَيْنَاكُم فَصَلَّيْنَا لَكُم فيه»، فلما نزل بذى أوانَ جاءه خبرُ المسجد من السماء، فدَعا مالك بن الدُّخْشم أخا بنى سلمة بن عوف، ومَعن بن عدى العجلانى، فقال: «انطلقا إلى هذا المسجدِ الظالِمِ أهلُه، فاهدِماه، وحرِّقاه»، فخرجا مُسرعَين، حتى أتيا بنى سالم بن عوف، وهم رهطُ مالك بن الدُّخشم، فقال مالك لمعن: أنْظِرْنى حتى أخرُج إليك بنارٍ مِن أهلى، ودخل إلى أهله، فأخذ سعفًا من النخل، فأشعل فيه نارًا، ثم خرجا يشتدَّان حتى دخلاه وفيه أهلُه، فحرقاه وهدماه، فتفَرَّقوا عنه، فأنزل الله فيه: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وتَفْرِيقًا بَيْنَ المُؤْمِنِينَ} [التوبة: 107]. إلى آخر القصة.
وذكر ابن إسحاق الذين بنوه، وهم إثنا عشر رجلًا، منهم: ثعلبةُ بن حاطب. وذكر عثمان بن سعيد الدارمى: حدَّثنا عبد الله بن صالح، حدَّثنى معاوية بن صالح، عن علىّ بن أبى طلحة، عن ابن عباس في قوله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وكُفْرًا}، هم أُناس من الأنصار ابتَنوْا مسجدًا فقال لهم أبو عامر: ابنُوا مسجدكم، واستمِدُّوا ما استطعتم مِن قوة ومِن سلاح، فإنى ذاهبٌ إلى قَيْصرَ ملكِ الروم، فآتى بجند من الروم، فأُخْرِجُ محمدًا وأصحابه، فلما فرغوا مِن مسجدهم، أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنَّا قد فرغنا من بناء مسجدنا، فنُحب أن تُصَلِّى فيه، وتدعو بالبركة، فأنزلَ الله عَزَّ وجَلَّ: {لا تَقُمْ فِيهِ أبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أوَّلِ يَوْمٍ} يعنى مسجد قُبَاء {أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ} [التوبة: 108] إلى قوله: {فَانْهَارَ بِهِ في نَارِ جَهَنَّمَ} [التوبة: 109] يعنى قواعده، {لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الذي بَنَوْاْ رِيبَةً في قُلُوبِهِمْ} يعنى: الشكَ {إلا أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} يعنى بالموت.

.فصل: في خروج الناس لتلقيه صلى الله عليه وسلم عند مقدمه المدينة:

فلما دنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من المدينة، خرج الناس لتلقيه، وخرج النساءُ والصبيان والولائد يقلن:
طَلَعَ البَدْرُ عَلَيْنَا ** مِنْ ثَنِيَّاتِ الوَدَاعِ

وَجَبَ الشُّكْرُ عَلَيْنَا ** مَا دَعَا للهِ دَاعِى

وبعضُ الرواة يَهِمُ في هذا ويقولُ: إنما كان ذلك عند مقدَمِه إلى المدينة من مكةَ، وهو وَهْمٌ ظاهر، لأن ثنياتِ الوداع إنما هي من ناحية الشام، لا يراها القادِمُ من مكة إلى المدينة، ولا يمرُّ بها إلا إذا توجَّه إلى الشام، فلما أشرف على المدينة، قال: «هذِهِ طَابَةُ، وَهَذَا أُحُدٌ جَبَلٌ يُحِبُّنا ونُحِبُّه».
فلما دَخلَ قال العباسُ: يا رسول الله؛ ائذن لى أمتدِحك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قل: لا يَفْضُض اللهُ فَاكَ» فقال:
مِنْ قَبْلِهَا طِبْتَ في الظِّلاَلِ وَفِى ** مُسْتَوْدَعٍ حَيْثُ يُخْصَفُ الوَرقُ

ثُمَّ هَبَطْتَ البِلادَ لاَ بَشَرٌ ** أَنْتَ وَلا مُضْغَةٌ وَلاَ عَلَقُ

بَلْ نُطْفَةٌ تَرْكَبُ السَّفِينَ وَقَدْ ** أَلْجَمَ نَسْرًا وَأَهْلَه الغَرَقُ

تُنْقَلُ مِنْ صَالِبٍ إلى رَحِمٍ ** إذَا مَضَى عَالَمٌ بَدَا طَبَقُ

حَتَّى احْتَوَى بَيْتُكَ المُهَيْمِنُ مِن ** خِنْدِفَ عَلْيَا تَحْتَها النُّطُقُ

وَأَنْتَ لمَّا وُلِدْتَ أَشْرَقَتِ ال ** أرض وَضَاءَتْ بِنُورِكَ الأُفُقُ

فَنَحْنُ في ذَلِك الضياءِ وَفى النْـ ** ـنُورِ وَسُبْلَ الرَّشَادِ نَخْتَرِق

.فصل [في ذكر ما صنعه النبي صلى الله عليه وسلم بعد عودة إلى المدينة من تبوك]:

ولما دخل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المدينَة، بدأ بالمسجد فصلَّى فيه ركعتين، ثم جلس للنَّاس، فجاءه المخلَّفون، فطفِقُوا يعتذِرون إليه، ويحلِفُون له، وكانوا بضعةً وثمانين رجلًا، فقبل منهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم، وبايعهم، واستغفر لهم، وَوَكَل سَرائِرَهم إلى الله، وجاءه كعبُ بنُ مالك، فلما سلَّم عليه، تبسم تبسُّمَ المُغْضَبِ، ثم قال له: «تعال».
قال: فجئتُ أمشى حتى جلستُ بين يديه، فقال لى: «ما خَلَّفَكَ، ألم تَكُنْ قَدِ ابْتَعْتَ ظَهرَك»؟ فقلتُ: بَلَى إنى واللهِ لو جلستُ عندَ غيرِك من أهل الدنيا، لرأيتُ أن أخرُجَ مِن سخطه بعُذرٍ، ولقد أُعطِيتُ جدلًا، ولكنى واللهِ لقد عَلِمْتُ إن حدثتُك اليومَ حديثَ كذب تَرضى به علىَّ، ليوشِكَنَّ اللهُ أَن يُسْخِطَك عَلىَّ، ولئن حدَّثْتُكَ حَديثَ صِدقٍ، تَجِدُ علىَّ فيه، إنِّى لأرجُو فيه عفوَ اللهِ عنى، واللهِ ما كان لى مِن عذر، واللهِ ما كنتُ قَطُّ أقوى ولا أيسرَ مِنى حين تخلَّفتُ عنك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما هذَا فَقَدْ صَدَقَ، فقُم حتى يقضِىَ اللهُ فيك». فقمتُ، وثار رِجالٌ من بنى سلمة، فاتبعونى يُؤنِّبونى، فقالوا لى: واللهِ ما علمناكَ كنتَ أذنبتَ ذنبًا قبلَ هذا، ولقد عَجَزْتَ ألا تكونَ اعتذرتَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر إليه المخلَّفون، فقد كان كافيَك ذنبَك استغفارُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لك.
قال: فواللهِ ما زالوا يُؤنبونى حتى أردتُ أن أرجع، فأكذِبَ نفسى، ثم قلتُ لهم: هل لقى هذا معى أحدٌ؟ قالوا: نعم رَجُلانِ قالا مِثْلَ ما قلتَ، فقيل لهما مثلَ ما قيل لك، فقلتُ: مَن هما؟ قالوا: مُرارة بنُ الربيع العامرى، وهِلالُ بنُ أُمية الواقفى، فذكروا لى رجلين صالِحين شهدا بدرًا فيهما أُسوةٌ، فمضيتُ حين ذكروهما لى.
ونهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المسلمينَ عن كلامِنا أيُّها الثَّلاثَةُ مِن بين مَنْ تخلَّفَ عنه، فاجْتَنَبَنَا النَّاسُ، وتغيَّروا لنا، حتى تنكرت لى الأرضُ، فما هي بالتى أعرِفُ، فلبثنا على ذلك خمسينَ ليلةً، فأما صاحباى، فاستكانا وقعدا في بيوتِهما يَبكيانِ، وأما أنا فكنتُ أشبَّ القوم وأجلدَهم، فكنتُ أخرج، فأشهدُ الصلاةَ مع المسلمين، وأطوفُ في الأسواق، ولا يُكلِّمنى أحد، وآتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأُسَلِّمُ عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسى: هل حرَّك شفتيه بردِّ السلام علىَّ أم لا؟ ثم أُصَلِّى قريبًا منه، فأسارِقه النظر، فإذا أقبلتُ على صلاتى، أقبل إلىَّ، وإذا التفتُّ نحوه، أعرضَ عنى، حتى إذا طالَ علىَّ ذلك مِن جفوة المسلمين، مشيتُ حتى تسوَّرتُ جدار حائط أبى قتادة، وهو ابنُ عمى، وأحبُّ الناسِ إلىَّ، فسلَّمتُ عليه، فواللهِ ما ردَّ علىَّ السلامَ، فقلت: يا أبا قتادة؛ أنشدُك باللهِ، هل تعلَمُنى أُحِبُّ الله ورسولَه صلى الله عليه وسلم؟ فسكت، فعُدت، فناشدتُه، فسكت، فعُدت فناشدتُه، فقال: اللهُ ورَسُولُه أعلمُ، ففاضت عيناى، وتولّيتُ حتَّى تسورتُ الجِدَار.